الفلسفة \ الوجودية \ العدمية \ الجدلية .

الفلسفة \ الوجودية \ العدمية \ الجدلية

كثير ما اسأل عن كيفية البدء في قرائه الفلسفة وما هي الكتب التي أستطيع قراءتها, لكي أكون بذة فكرية لدي لأجعل منها نواة أبحاثي في علم الفلسفة.

دعوني أجيب على هذا السؤال بأسلوب عامية الحديث الجدلي لأقول بأن علم الفلسفة يدرس ولا يدرس , بمعنى أنك حين تحاول فهم الفلسفة أياك أن تغمر فكرك بأنك تستطيع التوصل لنتائج متوقعة من خلال قراءتك لبعض كتب الفلسفة والتي قد يتبعها بعض المناظرات أو المحاضرات التي تخدم أبحاثك في علم الفلسفة , لأن علم الفلسفة في أصلة جوهر استنتاجي تحصل عليه على مر الزمن من خلال دراسة الفلاسفة انفسهم وذلك ما تستطيع التوصل إلية بقراءة مؤلفاتهم وأيضا لتحصل على نتائج تجعلك ممن يعاصرون علم الفلسفة والوجودية والعدمية , هذا قائم على الكيفية التي تستطيع امتلاكها من المرونة الفكرية التي تبعدك عن الجمود الفكري لمذهب ما أو فيلسوف أو استنتاج سلوكي .

وفي هذا المقال سأذكر العديد من أسماء الفلاسفة اللذين تستطيع في بداية الامر قراءة مقتطفات عنهم وكيف بدأ علم الفلسفة ولنفس السبب سيجعلك هذا المقال تمتلك قاعدة معرفية بأسماء الفلاسفة الذين من الممكن أن تكون على اتصال مباشر معهم فكريا وذلك من خلال قراءة عقولهم وكيف كانت تتشكل الفلسفة بكل قيمها وأفكارها ودراساتها ونتائجها.

سأبدأ بسقراط الفيلسوف اليوناني , وهو أول من تحدث بعلم الفلسفة, كما قال أنيس منصور, سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض, حيث نقلها من عالم الأفكار المجردة التي لا تبلغ من الناس الا رؤوسهم ونزل بها الى الأرض , الى الشارع والسوق وكل مكان يكون فيه الانسان مع إنسان آخر, حتى ولو كان هذا الآخر هو نفسة .

كما أن جميع مناقشات سقراط مع تلامذته ومحاوريه سجلت بقلم تلميذة الفيلسوف العظيم أفلاطون, وجاءت كل كتب أفلاطون على هيئة محاورات أو مناقشات بين سقراط وتلامذته وبين خصومة أيضا , وهذا الفعل جعل أفلاطون يقوم بتأديب الفلسفة أي جعلها أدبا, كما حاول كيركجورد منذ مائة سنة أن يبسط الفلسفة وينقلها الى المجلات والصحف وحاول أن يقوم بنفس الدور الذي قام به سقراط , فأدب الفلسفة وزعزع الإيمان الراكد في النفوس, الايمان المنطقي والايمان الديني , وتحول كيركجورد الى جرس هائل يوقظ النائمين في كل مكان, النائمين بأحضان العقيدة والنائمين بلا عقيدة. وكان هم كيركجورد هو هم سقراط أيضا , أن يعرف الإنسان نفسه بنفسة, فسقراط كان يعكف على نفسة ليعرف حدودها وقدراتها, وكان سقراط يستعين على نفسة بالناس فيناقشهم ويحاورهم, أو يستعين على فهم الناس بقواه الخارقة.

لذلك يرى بعض المؤرخين أن الوجودية قد بدأت بسقراط وبمحاولاته تشخيص المشاكل الفلسفية, ويجعل الفلسفة تتجه الى الإنسان نفسة, وليس الى العالم الخارجي, فسقراط قد حول الفلسفة من القوى الكونية والبحث في كل ما ليس إنسانيا, وجعلها تتجه الى الإنسان ومنه الى ما عداه من الكائنات والأشياء.

على أن المحاولات القوية الحقيقية لجعل الفلسفة حياة وحركة والأفكار الفلسفية شخصيات إنسانية تروح وتجيء, فالوجودية يرجع تاريخها الى حوالي 120 سنة حيث ظهرت على يدي الفلاسفة الوجوديين الفرنسيين, ولم تظهر الوجودية في صورة إنسانية واضحة الا عند جان بول سارتر الذي يتزعم الفلسفة الوجودية في فرنسا, وسارتر هو أول من جعل الفلسفة أدبا, أو الادب فلسفة, وهو بحق أول من جعل الفلسفة تدخل حياة الناس. حيث أصبحت الفلسفة بقلم سارتر حياة متدفقة, قلقة منطلقة. حيث انطلقت على ألسنة الناس كلمات مثل الوجودية , سارتر , الوجود , العدم , القلق , الفزع , الغثيان , السقوط , الغربة , الحرية , الالتزام , الالتصاق , الموت السكرى , النظرة , الجحيم هم الآخرون , كلها كلمات خرجت في المجتمع الأوربي من كتب وروايات وقصص سارتر . حيث أصبحت كلمة الوجودية مرادفة لأي شيء , حيث لم يعد لها معنى , أو لها كل معنى .

وكما أنه صدر لسارتر كتابة الوجود والعدم , وكان هذا الكتاب للمتخصصين في الفلسفة , وقد حاول سارتر في هذا الكتاب, حيث أنه أضخم كتاب وأعقد كتاب فلسفي ظهر في القرن العشرين, أن يشرح فلسفة ألمانية أخرى, وهي التي تفرعت منها الفلسفة الوجودية , وهذه الفلسفة أسمها فلسفة الظاهريات للفيلسوف الألماني هوسرل. وصدرت لسارتر كتب أخرى للمتخصصين في الفلسفة. كما قيل أيضا بأن الوجودية ليست مذهبا فلسفيا, وهذا صحيح لسبب, وليس صحيحا لسبب آخر, فالوجودية ليست مذهبا ,لأن الوجودية ضد فكرة المذهبية, والمذهب معناه أن يكون هناك تفسير عام شامل لمجموعة من المشاكل الفلسفية الجوهرية, ومعنى ذلك أن المذهب هو مجموعة من الاحكام العامة أو المبادئ المتكاملة التي تفسر الكون كله, تفسر الله والكون والروح والإنسان والقيم الأخلاقية والجمالية.

والوجودية تعارض الأحكام العامة, وترى أنها غير دقيقة وأنها لا تقيم وزنا للحالات الفردية أو للأفراد أو للشخصية الإنسانية. والوجودية أيضا ليست مذهبا, بالمعنى التقليدي لكلمة مذهب في الفلسفة, فهي لا تتناول كل المشاكل الفلسفية المعروفة, فعند سارتر وهيدجر وأونا مونو يستبعدون من هذه المشاكل جميعا, الله , فالله عند سارتر يجب استبعاده من الوجودية فمجاله الدين, وكلمة الله تتضمن تناقضا منطقيا شديدا, ويرى سارتر أيضا أن البحث في الكون ونشأته والروح, كل هذه أمور لا تعنى الإنسان في حياته اليومية وفي عذابة الخصيب يوما بعد يوم .

وعلى هذا الأساس التقليدي لا يمكن اعتبار الوجودية مذهبا , وإنما تعتبر اتجاها في الفلسفة والأدب وعلم النفس. والوجودية تعتبر مذهبا فلسفيا, أذا رأينا المذهب هو التفسير الواحد الشامل لعدد من المشاكل المتشابكة, وأن تقدير هذه المشاكل أمر متروك لكل مفكر. فالوجودية جوهرها أن الإنسان ألقى في هذا العالم لسبب لا يعرفه وأنه يقف وحده أمام المجهول وأنه مضطر دائما أن يختار حياته وقوانينه وأن يكون مسؤولا عن هذا الذي اختاره وأن مسؤوليته هذه أمامه وأمام الناس جميعا وأن الناس معه دائما وأنهم عقبة في وجهه تورثه القلق والفزع وأن الإنسان قد ولد ليموت .

كما وصف الادب الوجودي بأنه أدب الانحدار أو أدب الانهيار, لأن الوجودية المعاصرة قد ظهرت في أبان الحرب الثانية وبعدها, ولأن أثر الانهيار الفكري والاجتماعي ما يزال عالقا بأقلام الوجوديين فهي تثير ترابا, وترسم شخصيات ملفوفة بالضباب, مرتعدة الإرادة, خافية المصير, مجهولة الغاية, ولكن هذا الانحدار كانحدار المياه تتولد منه القوى الكهربائية التي تنير مسارح الأدب, ولكن الوجودية تنير المسرح وتترك الممثلين من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, ومن شاء فليذهب الى الجحيم أو النعيم .

والوجودية إنما هي تصور الأزمة التي عانتها الروح الأوربية منذ القرن الثامن عشر, فالوجودية فلسفة أزمة وقد بدأت الأزمة التي يعانيها الأدب والفلسفة المعاصرة في أوربا, بتعرضها لسلسلة من الزلازل التي سجلتها مراصد التاريخ في أواخر القرن الثامن عشر. وكان من نتيجتها تحول التيارات الفكرية والفنية وظهور جبال ووديان وكهوف يغمرها الظلام والخوف والقلق . وقد بدأت هذه الزلازل ومرت بالدانمرك وتشيكوسلوفاكيا وأسبانيا ثم فرنسا وبرزت أسماء . هيلدرلن وفخته وريكله وهيدجر وفرويد ومارسيل وأوناموند وسارتر .

وكانت أول رجفه أصابت التفكير حين نظم هيلدرلن مصيره وراح يغنيه وينادي بأنه لابد من الموت ولابد من معانقته الموت ومادام العالم قد أصبح غريبا ومادام الإنسان قد فقد إحساسه بكل شيء عظيم , فلا شيء يستحق الحياة .

وفي هذه الأثناء كانت الثورة الفرنسية تحقق مبادئ الحرية و الإخاء والمساواة وباسم هذه المبادئ تقدم نابليون في كل جبهة وسبقة الشعراء والفلاسفة ينثرون الورد ويغرسون الأشجار وجاءت انتصارات نابليون هزيمة لهذه المبادئ فأصيبت أوربا كلها بخيبة أمل كبرى, ونهضت الشعوب تقاوم البطل أو الابن البكر للتاريخ وأسلمت الشعوب زمامها للحكومات, وظهرت فلسفات تقدس الحكومات وتجعلها قوة مطلقة, تجعلها الأصل في كل شيء, فالفرد خلية حية في جسم الدولة, وهذه الخلية تموت إذا انفصلت عن الجسم وكبرت هذه الحكومات واستقلت الدولة, ولكن الدول أفعى رهيب يحرص على صحته دائما, وهو لذلك يسير على ريجيم خاص, فهو لا يأكل إلا الحرية المسلوقة في دماء الأفراد, هذه هي نصيحة الفلاسفة فخته وهيجل وماركس وكانت خيبة أمل أخرى أصابت الروح الأوربية.

وأعلن كيركجورد أن هنالك شيئا آخر يستحق أن يعيش من أجلة الإنسان إنه الأبدية, وأن هنالك حقيقة إنسانية مهمة جدا هي الفرد. الفرد قبل الدولة , وهذا الفرد تلاحقة الخطيئة, ولا فرار له من الخطيئة إلا باليأس منها ومن الوجود كله, ويصرخ نيتشه قائلا : بل لا خلاص من اليأس ومن الخطيئة إلا بالقضاء على الله. فأعلن أن الله قد مات, فاختفت الأخلاق وتوارى الضمير وبقيت الإرادة , والإرادة هي إرادة القوة , والبناء للأقوياء هذه هي الحقيقة التي تلقفها بعد ذلك موسليني وهتلر وكانت الحرب الثانية.

ويرد كافكا على نيتشه بقوله أنه لا توجد حقيقة واحدة على الإطلاق, فكل ما لدينا أوهام ونحن لا ندرك إلا وهما وكل ما يعمله الإنسان وهم , ولهذا أوصى صديقا له أن يحرق كل ما كتب وكل ما شرع في كتابته , أن يحرق هذا كله دون أن يقرأ أشياء منه .

ويجيء الشاعر ريلكه فيسأل نفسه ولماذا هذا الإحساس بالوهم وخيبة الأمل ؟

ويجيب بقوله : لأنه لم تعد هناك قيم ولم تعد هناك أخلاق, وعلى ذلك ليس على الإنسان إلا أن ينعزل, وإلا أن يعيش بمفرده فالوحدة هي السماء التي تتجمع فيها السحب ولا تزال تتراكم وتتعقد حتى تهبط مطرا على قمم الجبال وتجري فيها أنهارا من الشعر والفن .

ويجيء هيدجر ويعلن أن الإنسان قد سقط في هذا العالم, وأنه ضائع وأنه بلا سند من حكمه ولا عون من أحد وأنه خلق ليموت.

ويجيء فرويد فيحطم النفس البشرية ويطلق قواها الكامنة ويضع أصابعه على التيارات الخفية في هذه النفس الغامضة  ومن ذلك الوقت اتجه الأدب والفن والفلسفة إلى أعمق أغوار النفس وانصرف عن الواقع الخارجي ومهد الطريق للسريالية والوجودية أيضا .

ويشكو الفيلسوف أونامونو من ضيق القفص الذي ولد فيه وضيق النفس, ويصرخ بأعلى فلسفته أنه يقاوم العدم . ويتعانق المصير واليأس والإلحاد والوحدة والعدم عند سارتر ويحسب الإنسان بأنه قد فقد كل شيء وكسب شيئا واحدا هو حريته , حرية مصيره وحرية يأسه ووهمه وإلحاده. لقد ألقى به في هذا العالم , دون علم منه, ودون رأي له, بلا هدف ولا غاية ولا أخلاق ولا إله, وعليه أن يصنع هدفه وغايته وأخلاقه وإلهه.

لقد احترقت كل السفن ولم  تبق له سوى سفينة واحده هي سفينة نوح التي جمعت كل شيء , جمعت الحرية الواسعة المخيفة, واسعه لأنها تشمل كل شيء , ومخيفة لأنها تحملك مسؤولية كل فعل وكل قرار تتخذه وحدك, ومع الآخرين فالإنسان عليه أن يختار بيته ويملأ فراغة ويؤمن وحشته ويختار له قبلة في الأرض أو في السماء

والإنسان لم يفعل شيئا من ذلك بعد , وهذه هي الأزمة ما تزال قائمة , وما تزال الوجودية تصور أعمق أعماقها .

من هنا نبدأ.

دمتم بخير وليعم السلام والحرية أرجاء الأرض

أسامه حريدين \ osama hreden

5 أفكار عن “الفلسفة \ الوجودية \ العدمية \ الجدلية .”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *