الوجودية . ديستويفسكي والوجودية.

إن الوجودية لا تريح القارئ ولا تريح من يفهمها ولا من يعيشها, لأنها توقظ فيه كل حس وتعلق أضواء وأجراسا على كل وظائفه وصفاته وعيوبه وآماله ومخاوفه فهي لا تريح, بل تخيف, تخيفك أنت, لأنها تضع على كتفيك مسئولية كبرى, إنها تجعل منك مشرعا لك ولكل الناس.

لذلك كتب ديستويفسكي, إذا كان الله غير موجود, يصبح كل شيء مباحا, وهنا تكمن نقطة بدأ الوجودية, وفعلا يكون كل شيء مباحا إن لم يكن الله موجودا, وبالتالي يكون الإنسان مهملا, لأنه لا يجد ما يمكن الإنشداد إليه لا من داخل ذاته ولا من خارجها, إنه لا يجد في البدء أي عذر, فإذا كان الوجود سابقا للماهية حقا, لن يتسنى لنا أبدا تفسير أي شيء بالرجوع إلى طبيعة إنسانية معطاة وجامدة, وبعبارة أخرى, ليست هناك حتمية, فالإنسان حر, بل إنه حرية, وإذا افترضنا من جهة أخرى, أن الله غير موجود, فإننا لن نجد أمامنا قيما أو أوامر تشرع تصرفاتنا.

الإنسان حرية, هكذا فإننا لا نجد أمامنا ولا خلفنا في الميدان الإنساني قيما ولا تبريرات أو أعذارا, نوجد وحدنا من دون أعذار, وهذا ما أعبر عنه بالقول , الإنسان محكوم علية بالحرية, محكوم عليه لأنه ليس هو من خلق نفسه, في حين أنه مع ذلك يكون حرا, لأنه بمجرد ما يلقى به في العالم يكون مسؤولا عن كل ما يفعل, ولا يقر الوجودي بسلطان الانفعال, إنه لن يتصور أبدا انفعالا جميلا قد أصبح سيلا جارفا يؤدي حتما بالإنسان إلى أفعال معينة فيكون ذلك بمثابة العذر, إنه يعتبر الإنسان مسؤولا عن انفعاله.

الإنسان يبدع الإنسان: لن يفكر الوجودي أيضا أن الإنسان باستطاعته إيجاد عون في علامة معطاة يمكنها أن توجهه لأنه يرى أن الإنسان يفكك بنفسه العلامة على هواه, فالوجودي يرى أنه حكم على الإنسان في كل لحظة أن يبدع الإنسان دون أي سند أو عون, وقد قال بونج في مقال رائع , الإنسان هو مستقبل الإنسان, وهذا صحيح تماما, لكننا نقع في الخطأ إذا فهمنا فقط من هذا القول أن هذا المستقبل مكتوب في السماء, وأن الله يعلمه, فهذا لن يكون البته مستقبلا, أما إذا عنينا من هذا القول أن أي إنسان يظهر, يكون ثمت مستقبل عليه أن يصنعه, مستقبل بكر ينتظره, عندها يكون اللفظ صحيحا.

الوجودية تتعارض مع الخمول. لأن الخمول هو موقف الناس الذين يقولون بأن الآخرين قادرون على عمل مالا أستطيع عمله, والمذهب الذي اقدمه إليكم مناقض تماما للخمول, بما أنه يعلن أن لا حقيقة الا داخل العمل, بل هو يذهب إلى ما هو أبعد بما أنه يضيف, بأن ليس الإنسان شيئا آخر سوى مشروعه, ولا يوجد إلا في النطاق الذي يتحقق فيه هذا المشروع, فهو إذن لا شيء آخر سوى مجموعة أفعالة ولا شيء آخر سوى حياته. وبناء على هذا, نستطيع أن نفهم لماذا يسبب مذهبنا ذعر عدد معين من الناس, ذلك أنهم غالبا لا تكون لديهم إلا طريقة واحدة لتحمل بؤسهم مفادها اعتقادهم أن الظروف كانت ضدي وأستحق أفضل كثيرا مما أنا فيه.

هنا نستحضر النية السيئة, فمن المؤكد أني إن لم أتمكن من الحصول على حب عظيم أو صداقة عظيمة, فذلك لأني لم أصادف الرجل أو المرأة الجديرين بذلك, وإن لم أؤلف كتبا جيدة فذلك لأني لم أحظ بالتفرغ الكافي لإنجازها, وإن لم أنجب أطفالا أضحي من أجلهم, فذلك لأني لم أعثر على الرجل الذي باستطاعتي الحياة معه, وتبقى لدي مجموعة استعدادات وممكنات غير موظفة وقابلة للاستمرار هي التي تمنحني قيمة ليس بإمكان السلسلة البسيطة لأفعالي أن تسمح بإنتاجها.

الإنسان هو ما ينبغي أن يكون عليه. في حين أنه بالنسبة إلى الوجودية, ليس هناك حب آخر في الواقع سوى الذي نكونه, وليست هناك إمكانية حب أخرى سوى التي تتجلى في حب ما, ولا توجد عبقرية في تلك التي تتجلى في الآثار الفنية, فعبقرية بروست تتجلى في مجمل الآثار الفنية التي أنتجها. كما تتجلى عبقرية راسين في سلسلة مسرحياته التراجيدية, وفيما عدا ذلك لا يوجد أي شيء, لماذا ننسب إلى راسين إمكانية كتابة مسرحية تراجيدية جديدة بما أنه لم يقم بكتابتها فعلا؟ فحين يلتزم إنسان ما في حياته, فإنه يرسم صورته, وخارج هذه الصورة لا يوجد أي شيء, قد يبدو هذا التفكير قاسيا فعلا, بالنسبة إلى من لم ينجح في حياته, غير أنه يهيئ الناس حتى يفهموا من جهة أخرى, أن الواقع وحده هو المهم, وأن الأحلام والانتظار والآمال تسمح لهم فقط بتحديد الإنسان على أنه حلم خائب أو أمل مجهض, أو على أنه انتظارات غير نافعه, أي أنها تعرفه بالسلب لا بالإيجاب.

الإنسان ليس شيء آخر غير حياته: ومع ذلك عندما نقول, لست شيء آخر غير حياتك, فهذا لا يعني أن قيمة الفنان تقدر من خلال آثاره الفنية فحسب, بل هناك آلاف الأشياء الأخرى التي تساعد أيضا على تعريفة.

ما نريد قوله, هو أن الإنسان ليس شيئا آخر سوى سلسلة مشاريع, وأنه يمثل نتاجها وتنظيمها ومجموعة العلاقات التي تكون هذه المشاريع, وفي هذه الظروف, ما يؤاخذوننا عليه هنا ليس في الواقع تشاؤمنا, وإنما شدة تفاؤلنا.

التشاؤم أم شدة التفاؤل: فإذا كان الناس يؤاخذون كتاباتنا الروائية التي نصف فيها كائنات خاملة وضعيفة وجبانه, وحتى بينة القبح أحيانا, فذلك ليس فقط لأن هذه الكائنات خاملة وضعيفة وجبانة أو قبيحة, لأننا إذا كنا نعلن مثل زولا أنها كذلك بسبب الوراثة وبسبب تأثير الوسط والمجتمع وبسبب حتمية عضوية أو نفسية, فإن الناس سيطمئنون وسيقولون , هو ذاك فنحن خلقنا على هذا النحو, وليس باستطاعة أي شخص فعل شيء حيال ذلك.

مسؤولية الإنسان غير أن الوجودية عندما تصف جبانا, فإنها تعتبر هذا الجبان مسؤولا عن جبنه, فهو ليس كذلك لأن له قلبا أو مخا جبانا, إنه لا يكون كذلك انطلاقا من بنيته الفيزيولوجية, وإنما هو كذلك لأنه تشكل على صورة جبان بفعل أعماله, لا يوجد مزاج جبان , هنالك أمزجة عصبية وهناك دم بئيس أو أمزجة غنية كما يقول كرماء القوم, لكن صاحب الدم البئيس ليس جبانا لهذا الاعتبار, لأن ما يكون الجبن هو فعل التخلي أو الاستسلام, والمزاج ليس فعلا, ويعرف الجبان انطلاقا من الفعل الذي قام به, وما يشعر به الناس في سريرتهم ويسبب فزعهم هو أن الجبان الذي نقدمه يعد مذنبا لكونه جبانا, وما يريدونه هو أن يولد الإنسان جبانا أو بطلا, ومن بين المآخذ الموجهة غالبا ضد دروب الحرية ما يصاغ على النحو التالي, كيف تجعلون من الناس الضعفاء في النهاية أبطالا, إن هذا الاعتراض يثير بالأحرى السخرة لأنه يفترض أن الناس يولدون أبطالا, وهذا ما يتمنى الناس اعتقاده في الواقع. أذا ولدت جبانا فستكون مطمئنا تماما, ولا تستطيع فعل شيء, ستظل جبانا مدى حياتك مهما فعلت, وإذا ولدت بطلا ستكون أيضا مطمئنا تماما وستظل بطلا طيلة حياتك, تشرب وتأكل كما يفعل البطل, وما تقوله الوجودية هو أن الجبان يجعل نفسة جبانا, والبطل يجعل من نفسة بطلا, ثمت دائما إمكانية بالنسبة إلى الجبان كي يتخلص من جبنه وبالنسبة إلى البطل أن يكف عن أن يكون بطلا, المهم هو الالتزام الكلي, لأن ما يدفعك نحو الالتزام كليا ليس حالة خاصة أو فعلا خاصا.

الوجودية منزع تفاؤلي: هكذا نكون قد أجبنا فيما أعتقد, عن جملة من المآخذ المتعلقة بالوجودية, ألا ترون بأنها لا يمكن أن تكون فلسفة يأس بما أنها لا تعرف الإنسان إلا من خلال الفعل. فهي ليست توصيفا متشائما للإنسان, فليس هناك منزع أكثر تفاؤلا منها بما أنها تعتبر أن مصير الإنسان موكول إليه هو ذاته, وهي ليست محاولة لإحباط الإنسان عن الفعل, بما أنها تعلن أن لا أمل إلا في فعله وأن الشيء الوحيد الذي يسمح للإنسان بالحياة هو الفعل, بناء على ذلك, نكون في هذا المستوى إزاء أخلاق الفعل والالتزام.

الذاتية: غير أنهم يؤاخذوننا أيضا انطلاقا من بعض هذه المعطيات أننا حبسنا الإنسان داخل ذاتية فردية, وهنا أساؤوا فهمنا بشدة, فنقطة انطلاقنا هي بالفعل ذاتية الفرد, بالنظر إلى مبررات فلسفية صرفة, ليس لأننا بورجوازيون وإنما لأننا نريد تأسيس منزعنا على الحقيقة وليس على جملة من النظريات المنمقة الملأى بالأمل, ولكن دون أسس واقعية, ولا يمكن أن توجد حقيقة أخرى في المنطق غير الحقيقة التالية, أنا أفكر أذا أنا موجود.

وكل نظرية تتناول الإنسان خارج هذه اللحظة التي يدرك فيها ذاته بذاته هي قبل كل شيء نظرية تلغي الحقيقة لأنه خارج هذا الكوجيتو الديكارتي تكون كل الأشياء احتمالية, وأي مذهب في الاحتمالات لا يكون متعلقا بحقيقة ينهار في العدم, وكي نعرف الاحتمال علينا امتلاك الحق, إذن كي تكون هناك حقيقة ما, ينبغي أن توجد حقيقة مطلقة, وهذه الحقيقة بسيطة, سهلة المنال وفي متناول الجميع, أذ تتمثل في أن ندرك أنفسنا دون وسائط.

الوجودية والمادية: في المقام الثاني تعد هذه النظرية الوحيدة التي منحت الإنسان كرامته, وهي الوحيدة التي لم تجعل منه موضوعا, فمن نتائج كل تصور مادي التعامل مع جميع الناس بما في ذلك ذاتي نفسها, على أنها موضوعات, أي مجموعة من ردود الأفعال الحتمية التي لا تتميز أبدا عن مجموعة الخصائص والظواهر التي تشكل طاولة أو كرسيا أو حجرا, نريد على وجه التدقيق أن ننشئ مملكة الإنسان بصفتها مجموعة من القيم المتميزة عن العالم المادي, غير أن الذاتية التي توصلنا إليها هاهنا تحت عنوان الحقيقة, ليست ذاتية فردية خالصة, أذ بينا أننا نكتشف أنفسنا فحسب داخل الكوجيتو, وإنما نكتشف الآخرين أيضا.

واذا أردنا تفسير الذاتية الديكارتية والذاتية الوجودية من خلال أنا أفكر, ندرك أنفسنا بأنفسنا أمام الآخر, على عكس فلسفتي ديكارت وكانط, فالآخر أيضا يمثل يقينا لا يقل عن يقيننا بأنفسنا, فمثلما يدرك الإنسان نفسه مباشرة من خلال الكوجيتو, فأنه يكتشف أيضا الآخرين جميعا, وهو يكتشفهم بصفتهم شرط وجوده, ولقد أدرك أنه لا يمكنه أن يوجد, بالمعنى الذي نقول فيه إننا روحانيون أو إننا أشرار أو إننا غيورين. إلا إذا اعترف به الناس على هذا النحو.

وجود الآخر, ولكي أحصل على حقيقة ما عني, ينبغي أن أمر عبر الآخر, فالآخر ضروري لوجودي على قدر ضرورته لكي أكون معرفة عن نفسي, ضمن هذه الشروط, فإن اكتشاف ما هو حميم فيّ سيكشفني في الوقت نفسه للآخر بصفته حرية ما ثلة قبالتي فالآخر لا يفكر ولا يريد إلا من أجلي أنا أو ضدي, هكذا فإننا نكتشف في الحال عالما سنسميه البينذاتية , ويقرر الإنسان في هذا العالم ما يكون, وما يكون الآخرون .

  هذه وجودية جان بول سارتر .

          بالعلم والمعرفة تحيا الأمم . ليعم السلام الأرض

أسامة حريدين \ Osama Hreden

3 أفكار عن “الوجودية . ديستويفسكي والوجودية.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *