حياة الانسان بين الواجب والحقوق .فن العيش الحكيم

في كثير من الأحيان ما أدخل في دائرة التفكير العميق بمعنى حياة الإنسان ولماذا وجد , وبينما أنا أفكر تحدث داخل رأسي زحمة الأفكار المنطقية منها واللامنطقي حيث جميعها خاضعة لهذا الكائن المعقد ,في تكوينه وتركيبة نفسة التي تتزاحم فيها الشهوات ,وعقلة الذي لا يملك مثله مخلوق غيرة على هذه البسيطة ,هذا المخلوق الجميل المعقد المحب الكاره ,الخير الشرير , الصادق الكاذب ,الأمين الخائن ,الشجاع الجبان , وإلى ما شاء من التناقضات والأضداد التي تجتمع كلها في هذا المخلوق وزد عليها أيضا ,فهي ليست صفات فقط وأنما أسماء أفعال يقدم على فعلها بالقول والعمل فتكتسب أسمها نتيجة لذلك الفعل , هذه كلها ملتصقة بهذا الكائن العجيب , الذي لدية القدرة على افتراس بني جنسه والتلذذ بعذابهم وازهاق أرواحهم , ما هذه التركيبة الفسيفسائية التي لم ولن يتوصل لا الأدب ولا العلم لإيجاد شيفرة موحدة للتعامل معه , لكن ولتبسيط الأمر علينا نحن البشر حاول الباحثين وعلماء النفس والفلاسفة والأدباء , أيجاد محاكاه لهذا المخلوق وسوقه على تهذيب نفسة ومعرفة حدود عقله وقدرته التي ستنتهي يوما ما , وهذا أيضا لم يجعله الا متمردا حتى رغم قناعته بانه زائل ,

وأيضا كي لا نكون من الذين يشيعون عدم جدوى لوجود الإنسان ,فسبق وذكرنا أنه من السهل السيطرة عليه وإعادة توجيهه عندما يمنح الحرية في الاختيار ويتمتع بمنظومه من العدل والحقوق وسرعة رد المظالم ,واعطائه الحرية في جميع اختياراته أن كان هذا يتوافق مع العيش المسالم ,وأعلاء قيم الأخلاق والتسامح ,وتغليب لغة السلام دائما على أي شيء يحاول الشر وأهله توسيطه لحياة الناس .

وأن جميع ما تداولناه وسنتداوله دائما ,كيف نرتقي بالإنسان ليكون أنسان لا أكثر ,لأن هذه الكلمة في طياتها ودلائل لفظها وما تكتنزه من معاني وقيم وأخلاق تكفي لتدرس وحدها وتعليمها لأي أنسان يلتقط نفسه الأول على هذه الأرض الى أن يشاء له القدر الرحيل .

هنا سأذهب على بعض ما ذكرة الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور في كتابة فن العيش الحكيم (تأملات في الحياة والناس ) .

وضع شوبنهاور في بداية الكتاب سؤلا وفي عرض الكتاب كان حثيث البحث والتوثيق للإجابة على هذا السؤال, وما يجعل الإنسان حكيما في عيشة ومعايشته للحياة وأهلها واذا أبحرنا في كتابة وتقلبنا فكريا بين كلماته سنستنتج أنه يضع الحقوق والقيم الأخلاقية ونقاشها باستفاضة وجعلها من الأسس التي أن لم تكن مرافقة لحياة الانسان وهو ذاته أن لم يتعامل مع مقتضيات ما طرح ومنح نفسة حق التمييز بين الحقوق والواجبات وكلها ستحمله ليكون أنسان أخلاقي بعيشة وتصرفاته وتفكيره وما سيعكسه للآخرين وكل من يعامله , من قيم خلاقة تجعل البيئة التي يعيشونها صحية إنسانية تحكمها الأخلاق .

_هل بمقدور الفلسفة تقديم إجابات مرضية عن فن عيش حكيم ممكن ؟

لننظر ما قالة كبير الفلاسفة قبل الميلاد وكيف  وضع بعض الأسس وناقشها وتقلب في تفسيراتها إلى أن وصل هو وكل من يقرأ هذا الكتاب , أن بين يدية قاعدة بيانات متكاملة عن كيفية جعل الإنسان حكيم في عيشة للحياة ,فقال أرسطو , أن الخيرات في حياة الناس تقسم إلى ثلاثة أنواع : خيرات مادية , وخيرات معنوية , وخيرات بدنية , وأعتقد استنادا إلى هذا التقسيم الثلاثي ,بأن الحياة البشرية محكومة عموما بثلاث شروك ,هي :

_ الكينونة : بمعنى ما نحن إياه , وهي شخصية الإنسان بمعناها الشامل , وتشمل الصحة ,القوة , والجمال والمزاج والطبع الأخلاقي والذكاء .

_الحيازة , أي ما عندنا ,أو ما نملكه من أشياء .

_التمثلات ,أي ما نمثله في أعين الآخرون , والدالة على مدى تقديرهم لنا من عدمه وهو ما يتبين من خلال آرائهم التقديرية التي يصنفون الناس اعتمادا عليها والقائمة على معايير الشرف والمكانة والمجد .

والاختلافات الموجودة على المستوى الأول ,تلك التي ستكون موضوع اهتمامنا في تبيانها في هذا الكتاب ,هي الاختلافات الطبيعية نفسها بين الناس بصفتهم أفرادا .لذلك نقدر منذ الآن بأن تأثيرها على سعادة الانسان أو تعاسته حاسم لو قارناه بالقواعد العامة والتوجيهات الإجمالية التي هي من وضع الناس أنفسهم ,والمندرجة في المستويين الآخرين ,الثاني والثالث أي الحيازة والتمثلات .

لأن المزايا الشخصية التي تشمل العقل الراجح والقلب الكبير شبيهة بالملوك الحقيقيين ,بينما مثيلاتها ذات الصلة بالمقام أو النسب (ولو كان ملكيا) والثروة وما شابه ,أشبه ما تكون بالممثلين لدور الملك على خشبة المسرح .ولقد سبق لميترودورس ,أول تلامذة أبيقور ,أن عنون مقال له كالآتي : في الأسباب الذاتية الصانعة لسعادتنا أكثر من الأسباب الموضوعية.

وهذا أمر مؤكد . فالأساسي في سعادة الفرد من عدمها قطعا هو ما يحدث بدواخله وما يعتمل في قرارة نفسه . فداخل هذا المدار الجواني يتقرر ما ستكونه حساسية وإرادته ونمط تفكيره , بينما كل ما يقع خارجه فتأثيره على هذه الأمور كلها تأثير عرضي وغير مباشر . إن هذا المعطى الأساسي هو الذي يجعل الناس يتأثرون تأثيرات متباينة بالظروف نفسها والأحداث الخارجية عينها . فحتى إن جمعهم وسط واحد ,فكل واحد منهم يعيش عالمه الخاص والمختلف ويعود السبب في ذلك إلى أن كل فرد هو نتاج مباشر لمداركة وأحاسيسه وحركاته الإرادية .أما الأشياء الخارجية العارضة فتأثيرها عليه مشروط بأحواله الداخلية .إن العالم الخاص بكل واحد منا محكوم بطريقة إدراكه للأشياء وهذه الطريقة تختلف من شخص لآخر باختلاف الذكاء , فالذكاء هو المسؤول عن ظهوره المعوز أو التافه أو الغني أو صاحب شأن . فبدل أن يحسد أحدهم شخصا مولعا بالمغامرات المثيرة قيد حياته , كان علية أن يغبطه عليها وعلى ما خصها به من اهتمام , وكذلك على قدرته في وصفها وصفا دقيقا . فالحدث نفسه الذي يوليه العقل الراجح أهمية خاصة يمر عليه العقل الصغير والسطحي مر الكرام ,ناظرا إليه بازدراء معتبرا إياه من التوافه المتكررة في الحياة اليومية للناس .وهذا ما يتأكد من خلال أشعار باذخة لغوته و بايرون  المستقاه موضوعاتها من معطيات واقعية راسخه . فلو أنشدها الأبله حق الإنشاد لحسد ناظمها على مغامراته الرائعة التي تحكيها , لكنه سيعجز كل العجز عن أن يحسده على سعة خياله الذي استطاع أن يحول حدثا عاديا إلى واقعة كبيرة وجميلة بالمثل , فالسوداوي سينظر إلى مشهد محدد نظرة تراجيديه في الوقت الذي سيتبين فيه الدموي صراعا مهما لا غير ,أما البارد الطبع فسيحوله في حدث تافه لا يستحق اهتماما ولا يثير انتباها ,وهكذا دواليك .

والسبب في كل ذلك هو أن كل واقع أي كل حدث ناجز يتشكل من شقين : الذات , والموضوع اللذان يتساويان في الأهميه ويمتزجان امتزاج الأكسجين بالهدروجين في الماء .فإذا كان الموضوعي مطابقا دائما لذاته , فأن الذاتي مباين ويأتي دوما على نحو مختلف وطبيعي إذن أن يكون الواقع الذي يتمثله مختلفا وهذا ما يفسر اختلافه من فرد لآخر , فحتى لو تبدى الواقع في نصفه الموضوعي بأبهى وأجمل صورة فإنه يغدو قبيحا وسمجا عندما تدركه ذاتية متبلدة وسطحية , فيصير بذلك أشبه بمنظر طبيعي جميل في وضع مناخي سيء أو مشاهد من غرفة قاتمة وبعبارة أوضح فكل واحد منا منغلق في وعيه الذاتي , كما هو ملفوف في أديمه ,ولا يعيش على نحو مباشر إلا من داخله , وقلما يرجو سندا أو نجاة أو خلاصا يأتيه من خارجة .

فعلى خشبة المسرح ,يتقمص الأمراء والمستشارون والخدم والجند والجنرالات وغيرهم أدوارا مختلفة غير أن هذا الاختلاف لا يطال إلا مظهرهم الخارجي ,أما دواخلهم فتبقى على حالها بما هي نواة كل شخص . يتعلق الأمر في الواقع بشخص واحد معجون من عدة عناصر ,أي أننا معشر البشر لسنا بالمحصلة سوى شخص هزلي مسكين من خلال كل همومه وصنوف يؤسه .

كذلك هو الامر في الحياة الواقعية للناس , فالإختلافات بينهم في المكانة الاجتماعية والخبرات المادية توكل لكل واحد منهم دورا محددا يلعبه وهذا الدور لا صله له إطلاقا بالاختلاف الجوهري والنوعي المحدد للسعادة من عدمها .

فبداخل كل هؤلاء الشخوص المتقمصين لأدوارهم يرقد شخص واحد يجتر همومه وصنوف بؤسه المتباينة بتباين أسبابها , الا أنها متطابقة في جوهرها . صحيح أنهم يتفاوتون في المكانة الاجتماعية والوضع الاعتيادي ,الا أنه تفاوت وتباين لا تفسره ظروفهم المعيشية ودرجة غناهم , أي لا يفسره الدور المنوط بهم والذي يجتهدون في تقمصه . وعلى غرار كل ما هو حادث , فما يحدث في حيوات الناس لا يحدث ولا يوجد على نحو مباشر إلا في أوعائهم . فالأساسي هنا هو الوعي الذي يتوقف عليه كل ما عداه . بما في ذلك الصور التي يمثلونها من خلاله , فكل مظاهر البهاء والجلال وكل ألوان المتع والمباهج تبدو فقيرة وجوفاء عندما تنعكس في الوعي الموتور للأبله , وهي غيرها تماما في موازين سيرفانتيس لما كان مستغرقا في تأليف كتابه (دون كيخوطي ) داخل سجن مزر فالشق الموضوعي في الواقع يتحكم فيه الحظ والصدفة , لذلك فهو دائم التغير والتحول بينما الشق الذاتي يتحكم فيه الإنسان فيظل ثابتا وجوهريا . وعليه , فحياة الناس رغم ما يكتنفها من اختلافات ظاهريه وخارجيه , تجمعها ماهيه واحدة حتى أنها تبدو للناظر اللبيب كتنويعات متكررة على التيمة نفسها . فلا أحد قادر على الانسلاخ من ذاتيته سواء كان من جنس الانسان أو جنس الحيوان يظل مراوحا للدائرة الضيقة التي حصرته فيها الطبيعة , مغلقا ومنغلقا فيها حتى النهاية أيا كانت الظروف والترتيبات الاصطناعية التي نحيطه بها . فمهما اجتهدنا لتوفير السعادة لحيوان نحبه , فلن ننجح الا في حدود ضيقه جدا يسيجها وعيه الخاص ونمط وجوده الأصلي . كذلك ذاتية الانسان , فهي التي تحدد سلفا حجم وطبيعة السعادة التي ستكون من نصيبه كما أن محدودية قواه العقلية ستحسم في مدى قابليته لتذوق المتع الراقية فإذا كانت القدرات العقلية للإنسان جد محدودة فلن ينجح العالم كله وكل المجهودات الخارجية وأسباب الثراء في تمكينه من تذوق غير السعادة التي هو أهل لها . فلجهة كونه نصف حيوان سيقنع غاية القناعة بالمتع الحسيه وبحياة حميميه ومنشرحة داخل أسرته الصغيرة وفي مجتمعه السمج , كما سيرضى بقضاء سواد وقته في أمور تافهه بل حتى التعلم ,رغم مفعوله المؤكد إلا أنه لن ينجح في توسيع الدائرة الضيقة لهذا الشخص على نحو لافت , لا شيء الا لكون المتع الرفيعة والمتنوعة والمستديمة لا تصدر إلا عن الفكر .وحتى لو شكك المشككون في هذا الرأي أثناء فترة الشباب وهو تشكيك ستفنده الوقائع بعدئذ , فستظل المتع الراقية متأتيه حصريا من الطاقة العقلية وبناء عليه نتبين بكل الوضوح الممكن كيف أن سعادة الناس مشروطة أساسا بما هم . أي بذاتيتهم وكينونتهم .والحال أن غالبيتهم لا تأخذ بالحسبان إلا ما لهم .أي ما ينتلكونه ويمثلونه  في أذهان الآخرين وموازينهم .وحظوظ الناس في معايشة حياة الكينونة مفتوحة على الممكن ويتساوون فيها ,الا أنها لا تكون , بالأغلب الأعم ,الا من نصيب الأغنياء بدواخيلهم وليس بأموالهم . وسيظل الأبله أبلها , والأخرق أخرقا حتى النهاية ولو أقاما بجنة النعيم . قال غوته إن كل أفراد الشعب الأسياد منهم والخدم , يعترفون بأن أسمى خير على وجه الأرض هو الطبع ولا شيء غيره .

ومن الأمور المؤكدة إذن أن الذاتي أهم بكثير من الموضوعي في الإنسان , وعليه المعول في توفير سعادته وخلق متعه في كل مناحي الحياة . هذا أمر لا جدال في , بدءا بالجوع وانتهاء بذلك العجوز الذي ينظر نظره غير مباليه إلى تلك المعشوقة التي يهيم بها الشاب العاشق , كما أن هذا أمر مؤكد أكثر فأكثر , كلما صعدنا نحو القمة حيث يعيش النوابغ والقديسون حياتهم الهنية .فلا شيء من الخيرات الخارجية ومظاهر الثروة يعلو على الصحة الجيدة لا شيء وإن متسولا ينعم بصحة جيدة لأكثر سعادة من ملك عليل وطريح فراش , فإذا كان للمرء طبع هادئ متأتي من صحة سليمه ونظام سعيد وصفاء ذهني حيوي فلا بد أن يرى الأشياء على حقيقتها وفي حجمها الطبيعي , واذا كانت له إرادة معتدلة ووديعة متأتية من وعي جيد أو ضمير مرتاح , فستمكنه من مزايا وأفضال لن تهبها له لا المكانة الاجتماعية المرموقة ولا الثراء الفاحش . فما يتوفر عليه المرء في دواخله وما يرافقه في عزلته , وامتلاكه لما يستحيل على الآخرين إعطاءه أو حرمانه منه ,أهم بكثير من كل ما يمكن أن يمتلكه أو يمثله ويرمز إليه في أوعاء الناس وتصوراتهم وأحلامهم فالألمعي أو الراقي عقليا حتى وإن كان في أقصى درجات عزلته فإنه يجد في خواطره وأفكاره ما يسليه أعظم تسليه . أما ذو العقل المحدود فيظل فريسة سهله ومفضلة للملل الفتاك حنى ولو حضر كل حفلات العالم وشارك في نزهه ومظاهر لهوه . فمن رزق طبعا معتدلا ولطيفا ,كان أسعد الناس ولو كان معوزا , بينما لن تنفع كل خيرات هذا العالم , من رزق طبعا شحيحا وحسودا وشريرا . فالألمعي من الناس قادر على الاستغناء عن كل المتع والشهوات التي تتهافت عليها العامة ,بل لا تعدو أن تكون في تقديره , عالة ومصدر إزعاج , يقول هوراس متحدثا من خلال نفسه : من الناس من لا يملك أحجارا كريمه ولا رخاما ولا عاجا ولا تماثيل نفيسة ولا فضة ولا فساتين أرجوانية كفساتين جيتوليس , ومنهم واحد فقط غير منشغل حتى بأمر امتلاكها ذات يوم . وقد كان سقراط , هو يتملى الأغراض الباهظة الثمن  معروضة للبيع , يصيح قائلا : كم من حاجة لست بحاجة إليها .

دعوني أقول بأنني من حبي لذا الكتاب كدت أن أعيد كتابته هنا من جديد , الأمر شيق الأمر ممتع حين نفحص كينونة الإنسان ونستطيع أن نصيغ من تصرفاته وما يحمل في ذاته كل ما يجعلنا نقيم سلوكياته فقط لنرتقي بإنسانيتنا ,

ومن أراد متابعة القراءة علية بالكتاب ودمتم بخير .

       أسامه حريدين

4 أفكار عن “حياة الانسان بين الواجب والحقوق .فن العيش الحكيم”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *